زهرات من "حديقة أبيقور" | عن الفرنسيّ أناتول فرانس

من مجلّة "المنتدى" [01 أيّار 1941] | جرايد

 

المصدر: مجلّة "المنتدى".

موعد النشر: الثلاثاء، 01 أيّار 1941.

موقع النشر: جرايد.

 

للكاتب الفرنسيّ: أناتول فرانس.

نقلها إلى العربيّة: محمّد روحي فيصل.

 

لمّا كنت في "سنت لو" منذ عشر سنوات، لقيت عند صديق لي كان يسكن هذه المدينة الصغيرة الجبليّة، كاهنًا مثقّفًا فصيحًا طالما لذّ لي أن أطارحه شتّى الأحاديث في شتّى الشؤون.

ما لبث الكاهن أن اطمأنّ إليّ ووثق بي حتّى لقد كنّا نخوض في الموضوعات الخطيرة، فإذا هو معها في دقّة من عقله نافذة، وصفاء من نفسه إلهيّ. كان حكيمًا قدّيسًا، وكان من كبار علماء اللاهوت الّذين يعنون بمشاكل الضمير، فيدلون فيها بالحلول والآراء، وكان كلامه من القوّة والجاذبيّة بحيث لم أجد في هذه المدينة الصغيرة أشهى إليّ وأعزّ عليّ من أن أستمع إليه وأصغي له. ولبثت مع ذلك أيّامًا لا أجد من نفسي الجرأة على أن أنظر إليه وأحدّق فيه. لقد كان دميم الخلقة، دميم القامة، دميم المظهر، كقزم قد تعرّجت والتوت ساقاه يضطرب في رقص قريب من رقص "سنت غوى"، ويقفز بثوبه كمن يقفز وسط كيس من الأكياس. وكان ممّا زاده رهبة في عينيّ، ضفائر شقراء من الشعر تتدلّى على جبينه وتذكّر بطفولته.

 

 

وتطامن أخيرًا، فأهجت ما كمن في نفسي من شجاعة لأسرح الطرف في وجهه، وأظفر من الإمعان في دمامته بشيء من اللذّة القويّة والخير العميم. ولقد دهشت لشفتيه كيف تنفرجان في البسمة الروحيّة عن بقايا أسنان سود، وعجبت لعينيه كيف تدوران في النظر إلى السماء بين أجفان دامية، فما رثيت له ولا أشفقت عليه، بل غبطت إنسانه صانه تشويه جسده عن قلق اللحم، وضعف الحواي، وفتنة الإغواء الّتي تدعو إليها أشباح الليل وأرواحه. وحسبت الرجل سعيدًا بين الناس. وإنّا لَفي ذات يوم نهبط كلانا تحت وهج الشمس حدور التلال، ونأخذ في الحديث عن نعمة الله، إذ وقف الكاهن فجأة وأهوى بيده على ذراعي ثمّ قال لي بصوت راجف لا يزال إلى الساعة يدوي في مسمعي:

أؤكّد لك وأنا أدري ما أقول: إنّ العفّة فضيلة لا يستطيع امرؤ أن يصونها من الدنس إلّا بعون من الله أو سند!

وقف بي هذا الكلام من آثام اللحم على هوّة لا يسبر غورها. أفيفلت صالح بعد هذا من غواية الشهوة إذا كان الذي ظننت أنّ لا جسد له إلّا للعذاب والسآمة يشعر بإبر الرغبة والاشتهاء؟!

 

-2-

"يا للجمال، يا للجريمة الجميلة!" كذلك هتف يومًا جـ. جـ. ويس في بعض الصحف الكبرى. وعملت العبارة في نفوس القرّاء العاديّين عملها، فبعثتهم على الزلّة وأشاعت فيهم الإجرام. وكان منها أنّ فاضلًا من رجال القضاء، وهو شيخ جليل، قد أعاد الجريدة في صبيحة اليوم التالي إلى الموزّع، وكان مشتركًا بها منذ نيّف وثلاثين عامًا، وكان في سنّ لا تسمح لامرئ أن يبدل شيئًا من عاداته، إلّا أنّه ما تردّد في القيام بهذه التضحية في سبيل الأخلاق المسلكيّة. وكانت قضية "فيالديس" على ما أذكر هي الّتي أوحت إلى جـ. جـ. ويس بذلك الهتاف القويّ والإعجاب السخيّ. وما أحبّ أن أكون أنا السبب في زلّة إنسان، وإن أحببته فما أعرف السبيل إليه، فذلك يحتاج إلى كياسة جريئة لست منها على شيء، ولكنّي أقرّ هنا بأنّ الأستاذ كان مصيبًا فيما قال: يا للجمال، يا للجريمة الجميلة!

للعلل الشهيرة في نفس كلّ واحد منّا سحر ليس إلى دفعه من سبيل، وما أبالغ إذا قلت إنّ الدم المسفوك يعود نصفه إلى الشعر الّذي تردّده الإنسانيّة، وما "مكبث" و"شوبار المحبوب" إلّا أبطال الرواية. والميل إلى حوادث المجرمين وحكايات القتل فطريّ في الإنسان. إن شئت فاسأل الأطفال عن ذلك، يقولوا إنّ صاحب "اللحية الزرقاء" لو أنّه ما بطش بنسائه جميعًا لكانت قصّته أقل حلاوة وجمالًا، فالنفس يأخذها التطلّع والدهشة إزاء كلّ قصّة غامضة من قضايا الفتك والإجرام.

 

 

تعجب النفس لأنّ الجريمة في ذاتها مدهشة خافية خارقة، وتتطلّع لأنّها ترى في كلّ الجرائم هذا السناد القديم من الجوع والحبّ الّذي تنهض به الحياة فينا، أخيارًا كنّا أم أشرارًا، صالحين أم طالحين، فكان المجرم قد جاء من مكان سحيق يحمل إلينا صورة رهيبة من إنسانيّة الغابات والمغاور، تعيش فيه عبقريّة العروق الأولى مرّة أخرى، فيحتفظ منها بغرائز ظنّ أنّها اندثرت وماتت، وعنده ألوان من الكيد والمكر لا تعرفها بصيرتنا المدبّرة. وتهيجه إلى الإجرام شهوات هي فينا نائمة. إنسان حيوان معًا. فمن هنا كان المجرم مصدر ما يبعث في أنفسنا من الدهش المستقبح، ولعلّ الجريمة مشهد مسرحيّ فلسفيّ في آن واحد، ومؤثّر أيضًا، يفتن بحشد غريب، وظلال ثقيلة تتراءى على الجدران حين ينام كلّ شيء، وبخرق فاجعة، وملامح على الوجه ذات سرّ يغري.

تجتمع في الجريمة، إلى بداوة الطبع وكونها تزحف على أرض تُسقى بمائها منذ قرون، رقى الليل السود، وصمت القمر الحبيب، ورهبة الطبيعة الشتيتة، واكتئاب الحقول والأنهار، فهي لنأيها عن المجتمعات واختبائها في الجماهير تأخذ الأعصاب بنوع من رائحة القذارة والكحول، أو بلون من شميم العفونة والاستجابة لأصوات الخزي الّتي لا تُسمع.

أمّا إذا يكثر الخلق أو تكثر أوساطهم الوسطى، فالجريمة ترتدي رداءنا، وتتكلّم بلغتنا، ولعلّها بهذا الوجه الملتبس العامّيّ أقوى ما تكون سيطرةً على العقول واجتذابًا للأخيلة، فإنّما يؤثِر الشعب جريمة لبست الأسود من الثياب.

 

-3-

يمكن القول إنّ الشعراء في أغلب الأحيان يجهلون هذه القواعد العلميّة المقرّرة الّتي يخضعون لها حين ينشِئون شعرًا جميلًا، وهم على صواب في الجري على هدى التجربة العفويّة البسيطة عند النظم، ولعلّ من الجهل والغباوة أن نأخذهم بالجريرة واللوم في ذلك، فكما تقوم الغريزة وحدها بالحبّ، كذلك يقوم الطبع وحده بالفنّ، وليس للعلم ما يلقي عليه إلّا ضوءًا ثقيلًا. صحيح أنّ الجمال مصدره الهندسة، إلّا أنّ الشعور وحده هو الّذي يستطيع أن يتحسّس أعذب ضروبه وأشكاله.

سعداء هم الشعراء، لأنّ جانبًا من قوّتهم آتٍ من جهلهم أنفسهم، فما ينبغي أن يكون بينهم أخذ وردّ وكلام حول قواعد الفنّ الّذي يمارسونه، فربّما فقدوا بهذه القواعد ظرفهم وخلوص طويّتهم، وجعلوا كالسمك الخارج من الماء يضطربون بلا طائل بين وجوه من النظر مقفرة.

 

دمشق: محمّد روحي فيصل.

 

 

عَمار: رحلة دائمة تقدّمها فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، ليقفوا على الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين قبل نكبة عام 1948، وليكتشفوا تفاصيلها؛ وذلك من خلال الصحف والمجلّات والنشرات الّتي وصلت إلينا من تلك الفترة المطموسة والمسلوبة، والمتوفّرة في مختلف الأرشيفات المتاحة. ستنشر فُسْحَة، وعلى نحو دوريّ، موادّ مختارة من الصحافة الفلسطينيّة قبل النكبة، ولا سيّما الثقافيّة؛ لنذكر، ونشتاق، ونعود.